الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} تقديم {وبينهما} وهو خبر على المبتدأ للاهتمام بالمكان المتوسّط بين الجنّة والنّار وما ذكر من شأنه. وبهذا التّقديم صحّ تصحيح الابتداء بالنّكرة، والتّنكير للتّعظيم. وضمير {بينهما} يعود إلى لفظي الجنّة والنّار الواقعين في قوله {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44] وهما اسما مكان، فيصلح اعتبار التّوسّط بينهما. وجُعل الحجاب فصلاً بينهما. وتثنية الضّمير تُعيِّن هذا المعنى، ولو أريد من الضّمير فريقَا أهللِ الجنّة وأهل النّار، لقال: بينهم، كما قال في سورة الحديد (13) {فضرب بينهم بسور} الآية. والحجاب: سور ضُرب فاصلاً بين مكان الجنّة ومكان جهنّم، وقد سمّاه القرآن سوراً في قوله: {فضرب بينهم بسور له باب} في سورة الحديد (13)، وسمّي السور حجاباً لأنّه يقصد منه الحجب والمنع كما سمّي سوراً باعتبار الإحاطة. والأعراف: جمع عُرْف بِضّم العين وسكون الرّاء، وقد تضمّ الرّاء أيضاً وهو أعلى الشّيء ومنه سمّي عُرف الفرس، الشّعر الذي في أعلى رقبته، وسمّي عُرف الدّيك. الرّيش الذي في أعلى رأسه. و (أل) في الأعراف} للعهد. وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السّور. ليرقب منها النظَّارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم. ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتّى تعرّف بلام العهد، فتعيّن أنّها ما يعهده النّاس في الأسوار. أو يجعل (ألْ) عوضاً عن المضاف إليه: أي وعلى أعراف السّور. وهما وجهان في نظائر هذا التّعريف كقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] وأيّاً مّا كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكاناً مخصوصاً يتعرّف منه أهل الجنّة وأهل النّار، إذ لا وجه حينئذٍ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه. وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنّكرة، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب، قبل أن يدخلوا الجنّة، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار، ويعرِفون رجالاً من أهل النّار كانوا من أهل العزّة والكبرياء في الدّنيا، وكانوا يكذّبون وعد الله المؤمنين بالجنّة، وليس تخصيص الرّجال بالذّكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء، ولا اختصاص هؤلاء الرّجال المتحدّث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرّجال، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم، ولعلّ توهّم أنّ تخصيص الرّجال بالذّكر لقصد التّقسيم قد أوقع بعض المفسّرين في حيرة لتطلّب المعنى لأنّ ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقّوا ذلك المكان لأجل حالة لاحظّ للنّساء فيها، فبعضهم حمل الرّجال على الحقيقة فتطلب عملاً يعمله الرّجال لاحظ للنّساء فيه في الإسلام، وليس إلاّ الجهاد، فقال بعض المفسرين: هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم، وبعض المفسّرين حمل الرّجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة، أطلق عليهم الرّجال لأنّهم ليسوا إناثاً كما أطلق على أشخاص الجنّ في قوله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} [الجن: 6] فيظهر وجه لتخصيص الرّجال بالذّكر تبعاً لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها. وأمّا ما نقل عن بعض السّلف أنّ أهل الأعراف هم قوم اسْتوت موازين حسناتهم مع موازين سيّئاتهم، ويكون إطلاق الرّجال عليهم تغليباً، لأنّه لا بدّ أن يكون فيهم نساء، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم لم تبلغ مبلغ الصّحيح ولم تنزل إلى رتبة الضّعيف: روى بعضَها ابنُ ماجة، وبعضَها ابنُ مردويه، وبعضَها الطّبري، فإذا صحت فإنّ المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنّهم لم يدخلوا الجنّة وهم يطمعون. وليس المراد منها أنّهم المقصودُ من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمّل فيها. والذي ينبغي تفسير الآية به: أنّ هذه الأعراف جعلها الله مكاناً يوقف به من جعله الله من أهل الجنّة قبل دخوله إياها، وذلك ضرب من العقاب خفيف، فجعل الدّاخلين إلى الجنّة متفاوتين في السبق تفاوتاً يعلم الله أسبابه ومقاديره، وقد قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] وخصّ الله بالحديث في هذه الآيات رجالاً من أصحاب الأعراف. ثمّ يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمّة الإسلاميّة خاصّة. ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم، وأيّاما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمّة المحمّديّة. وتنوين {كلاً} عوضٌ عن المضاف إليه المعروف من الكلام المتقدّم. أي كلّ أهل الجنّة وأهل النّار. والسيما بالقصر السمة أي العلامة، أي بعلامة ميَّز الله بها أهل الجنّة وأهل النّار، وقد تقدّم بيانها واشتقاقها عند قوله تعالى: {تعرفهم بسيماهُم} في سورة البقرة (273). ونداؤهم أهلَ الجنّة بالسّلام يؤذن بأنّهم في اتّصال بعيد من أهل الجنّة، فجعل الله ذلك أمارة لهم بحسن عاقبتهم ترتاح لها نفوسهم. ويعلمون أنّهم صائرون إلى الجنّة، فلذلك حكى الله حالهم هذه للنّاس إيذاناً بذلك وبأن طمعهم في قوله: لم يدخلوها وهم يطمعون} هو طمع مستند إلى علامات وقوع المطموع فيه، فهو من صنف الرّجاء كقوله: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} (الشعراء 82). و {أن} تفسير للنّداء، وهو القول {سلام عليكم}. و{سلام عليكم} دعاءُ تحيّة وإكرام. وجملة: {لم يدخلوها وهم يطمعون} مستأنفة للبيان، لأنّ قوله {ونادوا أصحاب الجنّة} يثير سؤالاً يبحث عن كونهم صائرين إلى الجنّة أو إلى غيرها. وجملة: {وهم يطمعون} حال من ضمير {يدخلوها} والجملتان معاً معترضتان بين جملة: {ونادوا أصحاب الجنة} وجملة {وإذا صرفت أبصارهم}. وجملة: {وإذا صرفت أبصارهم} معطوفة على جملة: {ونادوا أصحاب الجنة}. والصّرف: أمر الحالّ بمغادرة المكان. والصّرف هنا مجاز في الإلتفات أو استعارةٌ. وإسناده إلى المجهول هنا جار على المتعارف في أمثاله من الأفعال التي لا يُتطلّب لها فاعل، وقد تكون لهذا الإسناد هنا فائدة زائدة وهي الإشارة إلى أنّهم لا ينظرون إلى أهل النّار إلاّ نظراً شبيهاً بفعل من يحمله على الفعل حَامِل، وذلك أنّ النّفس وإن كانت تكره المناظر السيّئة فإنّ حبّ الاطّلاع يحملها على أن توجّه النّظر إليها آونة لتحصيل ما هو مجهول لديها. والتلقاء: مكان وجود الشّيء، وهو منقول من المصدر الذي هو بمعنى اللّقاء، لأنّ محلّ الوجود مُلاق للموجود فيه.
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} التّعريف في قوله: {أصحاب الأعراف} للعهد بقرينة تقدّم ذكره في قوله: {وعلى الأعراف رجال} [الأعراف: 46] وبقرينة قوله هنا {رجالاً يعرفونهم} إذ لا يستقيم أن يكون أولئك الرّجال يناديهم جميع من كان على الأعراف، ولا أن يَعرفهم بسيماهم جميع الذين كانوا على الأعراف، مع اختلاف العصور والأمم، فالمقصود بأصحاب الأعراف هم الرّجال الذين ذكروا في الآية السابقة بقوله: {وعلى الأعراف رجال} [الأعراف: 46] كأنّه قيل: ونادى أولئك الرّجالُ الذين على الأعراف رجالاً. والتّعبير عنهم هنا بأصحاب الأعراف إظهار في مقام الإضمار، إذ كان مقتضى الظّاهر أن يقال. ونادوا رجالاً، إلاّ أنّه لما تعدّد في الآية السّابقة ما يصلح لعود الضّمائر إليه وقع الإظهار في مقام الإضمار دفعاً للالتباس. والنّداء يؤذن ببعد المخاطب فيظهر أنّ أهل الأعراف لما تطلّعوا بأبصارهم إلى النّار عرفوا رجالاً، أو قَبْلَ ذلك لمّا مُرّ عليهم بأهل النّار عرفوا رجالاً كانوا جبارين في الدّنيا. والسيما هنا يتعيّن أن يكون المراد بها المشخّصات الذاتية التي تتميّز بها الأشخاص، وليست السيما التي يتميّز بها أهل النّار كلّهم كما هو في الآية السّابقة. فالمقصود بهذه الآية ذكر شيء من أمر الآخرة، فيه نذارة وموعظة لجبابرة المشركين من العرب الذين كانوا يحقرون المستضعفين من المؤمنين، وفيهم عبيد وفقراء فإذا سمعوا بشارات القرآن للمؤمنين بالجنّة سكتوا عمن كان من أحرار المسلمين وسادتهم. وأنكروا أن يكون أولئك الضّعاف والعبيد من أهل الجنّة، وذلك على سبيل الفرض، أي لو فرضوا صدق وجود جنّة، فليس هؤلاء بأهل لسكنى الجنّة لأنّهم ما كانوا يؤمنون بالجنّة، وقصدهم من هذا تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وإظهار ما يحسبونه خَطلا من أقواله، وذلك مثل قولهم: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7] فجعلوا تمزّق الأجساد وفناءها دليلا على إبطال الحشر، وسكتوا عن حشر الأجساد التي لم تمزّق. وكلّ ذلك من سوء الفهم وضعف الإدراك والتّخليط بين العاديات والعقليات. قال ابن الكلبي: «ينادي أهل الأعراف وهم على السور يَا وليدُ بنَ المغيرة يا أبَا جهل بنَ هشام يا فلان ويا فلان» فهؤلاء من الرّجال الذين يعرفونهم بسيماهم وكانوا من أهل العزّة والكبرياء. ومعنى {جمعكم} يحتمل أن يكون جَمْع النّاس، أي ما أغنت عنكم كثرتكم التي تعتزّون بها، ويحتمل أن يراد من الجمع المصدر بمعنى اسم المفعول. أي ما جمعتموه من المال والثّروة كقوله تعالى: {ما أغنى عني ماليه} [الحاقة: 28]. و (مَا) الأولى نافية، ومعنى {ما أَغْنَى} ما أَجْزَى مصدره الغَناء بفتح الغين وبالمدّ. والخبر مستعمل في الشّماتة والتّوقيف على الخطأ. و (ما) الثّانية مصدريّة، أي واستكباركم الذي مضى في الدّنيا، ووجه صوغه بصيغة الفعل دون المصدر إذ لم يقل استكباركم ليتوسّل بالفعل إلى كونه مضارِعا فيفيد أنّ الاستكبار كان دأبَهم لا يفترون عنه. وجملة {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} من كلام أصحاب الأعراف. والاستفهام في قوله {أهؤلاء الذين أقسمتم} مستعمل في التّقرير. والإشارة ب {أهؤلاء} إلى قوم من أهل الجنّة كانوا مستضعفين في الدّنيا ومحقرين عند المشركين بقرينة قوله: {الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} وقوله {ادخلوا الجنة} قال المفسّرون هؤلاء مثل سلمانَ، وبلال، وخبَّاب، وصُهَيب من ضعفاء المؤمنين، فإما أن يكونوا حينئذ قد استقرّوا في الجنّة فَجَلاَهم الله لأهل الأعراف وللرّجال الذين خاطبوهم، وإمّا أن يكون ذلك الحِوار قد وقع قبل إدخالهم الجنّة. وقسمُهم عليهم لإظهار تصلّبهم في اعتقادهم وأنّهم لا يخامرهم شكّ في ذلك كقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38]. وقوله: {لا ينالهم الله برحمة} هو المقسم عليه، وقد سلّطوا النّفي في كلامهم على مراعاة نفي كلام يقوله الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أو المؤْمنون، وذلك أنّ بشارات القرآن أولئك الضّعفاءَ، ووعدَه إياهم بالجنّة، وثناءَه عليهم نُزل منزلة كلام يقول: إنّ الله ينالهم برحمة، أي بأن جُعل إيواء الله إياهم بدار رحمته، أي الجنّة، بمنزلة النَّيْل وهو حصول الأمر المحبوب المبحُوث عنه كما تقدّم في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} [الأعراف: 37] آنفاً، فأطلق على ذلك الإيواءِ فعل (يَنال) على سبيل الاستعارة. وجعلت الرّحمة بمنزلة الآلة للنَّيل كما يقال: نال الثّمرة بمحجن. فالباء للآلة. أو جعلت الرّحمة ملابسة للنَّيل فالباء للملابسة. والنّيل هنا استعارة، وقد عمدوا إلى هذا الكلام المقدّر فنفوه فقالوا: {لا ينالهم الله برحمة}. وهذا النّظم الذين حكي به قسمهم يؤذن بتهكّمهم بضعفاء المُؤمنين في الدّنيا، وقد أغفل المفسّرون تفسير هذه الآية بحسب نظمها. وجملة: {ادخلوا الجنة} قيل مقول قول محذوف اختصاراً لدلالة السّياق عليه، وحذفُ القول في مثله كثير ولا سيما إذا كان المقول جملة إنشائيّة، والتّقدير: قال لهم الله ادخلوا الجنّة فكذّب اللَّهُ قسمَكُم وخيّب ظنّكم، وهذا كلّه من كلام أصحاب الأعراف، والأظهر أن يكون الأمر في قوله: {ادخلوا الجنة} للدّعاء لأنّ المشار إليهم بهؤلاء هم أناس من أهل الجنّة، لأنّ ذلك الحين قد استقرّ فيه أهل الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النّار، كما تقتضيه الآيات السّابقة من قوله: {ونادوا أصحابَ الجنّة أنْ سلام عليكم إلى قوله القوممِ الظالمين} [الأعراف: 46، 47] فلذلك يتعيّن جعل الأمر للدّعاء كما في قول المعرّي: ابْقَ في نعمة بقاءَ الدّهور *** نافِذاً لحُكْم في جميع الأمور وإذ قد كان الدّخول حاصلاً فالدّعاء به لإرادة الدّوام كما يقول الدّاعي على الخارج: أخرج غير مأْسوففٍ عليك، ومنه قوله تعالى: {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}. ورفُع {خوف} مع (لا) لأنّ أسماء أجناس المعاني التي ليست لها أفراد في الخارج يستوي في نفيها بلا الرّفعُ والفتحُ، كما تقدّم عند قوله تعالى: {فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [الأعراف: 35].
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا}. القول في {نادى} وفي {أنْ} التّفسيريّة كالقول في: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا} [الأعراف: 44] الآية. وأصحاب النّار مراد بهم من كان من مشركي أمّة الدّعوة لأنّهم المقصود كما تقدّم، وليوافق قوله بعدُ {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه} [الأعراف: 52]. فعل الفيض حقيقته سيلان الماء وانصبابه بقوّة ويستعمل مجازاً في الكثرة، ومنه ما في الحديث: " ويَفيض المالُ حتّى لا يقبَله أحد ". ويجيء منه مجاز في السّخاء ووفرة العطاء، ومنه ما في الحديث أنّه قال لطلحة: «أنت الفيَّاض». فالفيض في الآية إذا حمل على حقيقته كان أصحاب النّار طالبين من أصحاب الجنّة أن يصبّوا عليهم ماء ليشربوا منه، وعلى هذا المعنى حمله المفسّرون، ولأجل ذلك جعل الزمخشري عطف {ما رزقكم الله} عطفاً على الجملة لا على المفرد. فيقدّر عامل بعد حرف العطف يناسب ما عدَا الماءَ تقديره: أو أعطونا، ونظّره بقول الشّاعر (أنشده الفراء): عَلَفْتُها تِبْنا وماءً بارداً *** حتّى شَبَتْ هَمَّالَةً عيناها تقديره: علفتها وسَقيتها ماء بارداً، وعلى هذا الوجه تكون (مِن) بمعنى بعض، أو صفة لموصوف محذوف تقديره: شيئاً من الماء، لأنّ: {أفيضوا} يتعدّى بنفسه. ويجوز عندي أن يحمل الفيض على المعنى المجازي، وهو سعة العطاء والسّخاء، من الماء والرزق، إذ ليس معنى الصبّ بمناسب بل المقصود الإرسال والتّفضل، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف. ويكون سُؤلهم من الطّعام مماثلاً لسؤْلهم من الماء في الكثرة، فيكون في هذا الحمل تعريض بأن أصحاب الجنّة أهل سخاء، وتكون (مِن) على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة، ويكون فعل {أفيضوا} مُنزلاً منزلة اللاّزم، فتتعلّق مِنْ بفعل {أفيضوا}. والرّزق مراد به الطّعام كما في قوله تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة} [البقرة: 25] الآية. وضمير {قالوا} لأصحاب الجنّة، وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النّار، ولذلك فصل على طريقة المحاورة. والتّحريم في قوله: {حرمهما على الكافرين} مستعمل في معناه اللّغوي وهو المنع كقول عنترة: حَرُمَتْ عليّ وليتَها لَمْ تَحْرُم *** وقولِه: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95]. والمراد بالكافرين المشركون، لأنّهم قد عُرفوا في القرآن بأنّهم اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً، وعُرفوا بإنكار لقاءِ يوم الحشر. وقد تقدّم القول في معنى اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرّتهم الحياة الدّنيا عند قوله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا} في سورة الأنعام (70). وظاهر النّظم أنّ قوله: الذين اتخذوا دينهم} إلى قوله الحياة الدنيا هو من حكاية كلام أهل الجنّة، فيكون: {اتخذوا دينهم لهواً} إلخ صفة للكافرين. وجُوز أن يكون: {الذين اتخذوا دينهم لهواً} مبتدأً على أنّه من كلام الله تعالى، وهو يفضي إلى جعل الفاء في قوله: {فاليوم ننساهم} داخلة على خبر المبتدأ لتشبيه اسم الموصول بأسماء الشّرط، كقوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] وقد جُعلَ قوله: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} إلى قوله وماكانوا بآياتنا يجحدون آية واحدة في ترقيم أعداد آي المصاحف وليس بمتعيّن. {فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ باياتنا يَجْحَدُونَ}. اعتراض حكي به كلام يُعْلَن به، من جانب الله تعالى، يَسمعه الفريقان. وتغيير أسلوب الكلام هو القرينة على اختلاف المتكلّم، وهذا الأليق بما رجحناه من جعل قوله: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} إلى آخره حكاية لكلام أصحاب الجنّة. والفاء للتّفريع على قول أصحاب الجنّة: {إنّ الله حرّمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} الآية، وهذا العطف بالفاء من قبيل ما يسمّى بعطف التّلقين الممثَّل له غالباً بمعطوف بالواو فهو عطف كلام. متكلّم على كلام متكلّم آخَر، وتقدير الكلام: قال الله {فاليوم ننساهم}، فحذف فعل القول، وهذا تصديق لأصحاب الجنّة، ومَن جعلوا قوله: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} كلاماً مستأنفاً من قِبل الله تعالى تكون الفاء عندهم تفريعاً في كلام واحد. والنّسيان في الموضعين مستعمل مجازاً في الإهمال والتّرك لأنّه من لوازم النّسيان، فإنّهم لم يكونوا في الدّنيا ناسين لقاء يوم القيامة، فقد كانوا يذكرونه ويتحدّثون عنه حديثَ من لا يصِدّق بوقوعه. وتعليق الظّرف بفعل: {ننساهم} لإظهار أنّ حرمانهم من الرّحمة كان في أشدّ أوقات احتياجهم إليها. فكان لذكر اليوم أثرٌ في إثارة تحسّرهم وندامتهم، وذلك عذاب نفساني. ودلّ معنى كاف التّشبيه في قوله: {كما نسوا} على أنّ حرمانهم من رحمة الله كان مماثلاً لإهمالهم التّصديق باللّقاء، وهي مماثلَة جزاءِ العمللِ للعمل، وهي مماثلة اعتباريّة، فلذلك يقال: إنّ الكاف في مثله للتّعليل، كما في قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198] وإنّما التّعليل معنى يتولّد من استعمال الكاف في التّشبيه الاعتباري، وليس هذا التّشبيه بمجاز، ولكنّه حقيقة خفيّة لخفاء وجه الشّبه. وقوله: {كما نسوا} ظرف مستقرّ في موضع الصّفة لموصوف محذوف دلّ عليه {ننساهُم} أي نسياناً كمَا نَسُوا. و (مَا) في: {كما نسوا} وفي {وما كانوا} مصدريّة أي كنسيانهم اللّقاء وكجَحْدهم بآيات الله. ومعنى جحد الآيات تقدّم عند قوله تعالى: {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} في سورة الأنعام (33).
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} الواو في {ولقد جئناهم} عاطفة هذه الجملة على جملة {ونادى أصحاب النّار أصحابَ الجنّة} [الأعراف: 50]، عطف القصّة على القصّة، والغرضضِ على الغرض، فهو كلام أنف انتقل به من غرض الخبر عن حال المشركين في الآخرة إلى غرض وصف أحوالهم في الدّنيا، المستوجبين بها لما سيلاقونه في الآخرة، وليس هو من الكلام الذي عقب الله به كلام أصحاب الجنّة في قوله: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} [الأعراف: 51] لأنّ قوله هنا {هل ينظرون إلاّ تأويله} [الأعراف: 53] إلخ، يقتضي أنّه حديث عن إعراضهم عن القرآن في الدّنيا، فضمير الغائبين في قوله: {جئناهم} عائد إلى الذين كذّبوا في قوله: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40] الآية. والمراد بالكتاب القرآن. والباء في قوله: {بكتاب} لتعدية فعل {جئناهم}، مثل الباء في قوله: {ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17] فمعناه: أجأناهم كتاباً، أي جعلناه جاء يا إياهم، فيؤول إلى معنى أبلغناهم إياه وأرسلناه إليهم. وتأكيد هذا الفعل بلام القسم و(قَدْ) إمّا باعتبار صفة (كتاب)، وهي جملة {فصّلناه على علم هدى ورحمة} فيكون التّأكيد جارياً على مقتضى الظّاهر، لأنّ المشركين ينكرون أن يكون القرآن موصوفاً بتلك الأوصاف، وإمّا تأكيد لفعل {جئناهم بكتاب} وهو بلوغ الكتاب إليهم فيكون التأكيد خارجاً على خلاف مقتضى الظاهر، بتنزيل المبلَّغ إليهم منزلة من ينكر بلوغ الكتاب إليهم، لأنّهم في إعراضهم عن النّظر والتّدبر في شأنه بمنزلة من لم يبلغه الكتاب، وقد يناسب هذا الاعتبار ظاهر قوله بعد: {يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53]. وتنكير (كتاب)، وهو معروف، قصد به تعظيم الكتاب، أو قصد به النّوعيّة، أي ما هو إلاّ كتاب كالكتب التي أنزلت من قبل، كما تقدّم في قوله تعالى: {كتاب أنزل إليك} في طالع هذه السّورة (2). {وفصلناه} أي بيّناه أي بيّنّا ما فيه، والتّفصيل تقدّم عند قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} في سورة الأنعام (55). وعلى عِلْمٍ} ظرف مستقر في موضع الحال من فاعل {فصّلناه} أي حال كوننا على علم، و(على) للاستعلاء المجازي، تدلّ على التّمكّن من مجرورها، كما في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] وقوله: {قل إني على بينة من ربي} في سورة الأنعام (57). ومعنى هذا التّمكننِ أن علم الله تعالى ذاتي لا يعْزُب عنه شيء من المعلومات. وتنكير {عِلْم} للتّعظيم، أي عالمين أعظمَ العلم، والعظمة هنا راجعة إلى كمال الجنس في حقيقته، وأعظم العلم هو العلم الذي لا يحتمل الخطأ ولا الخفاء أي عالمين علماً ذاتياً لا يتخلّف عنّا ولا يخْتلف في ذَاته، أي لا يحتمل الخطأ ولا التّردّد. و {هدى ورحمة} حال من {كتاب}. أو من ضميره في قوله: {فصّلناه}. ووصف الكتاب بالمصدرين {هدى ورحمة} إشارة إلى قوّة هديه النّاس وجلب الرّحمة لهم. وجملة {هدى ورحمة لقوم يؤمنون} إشارة إلى أنّ المؤمنين هم الذين توصّلوا للاهتداء به والرحمة. وأن من لم يؤمنوا قد حُرموا الاهتداء والرّحمة. وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة (2): {هدى للمتقين.}
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)} جملة {هل ينظرون إلا تأويله} مستأنفة استينافاً بيانياً، لأنّ قوله: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون} يثير سؤال من يسأل: فماذا يؤخّرهم عن التّصديق بهذا الكتاب الموصوف بتلك الصّفات؟ وهل أعظم منه آية على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم فكان قوله: {هل ينظرون} كالجواب عن هذا السّؤال، الذي يجيش في نفس السّامع. والاستفهام إنكاري ولذلك جاء بعده الاستثناء. ومعنى {ينظرون} ينتظرون من النّظرة بمعنى الانتظار، والاستثناء من عموم الأشياء المنتظرات، والمراد المنتَظرات من هذا النّوع وهو الآيات، أي ما ينتظرون آية أعظم إلاّ تأويل الكتاب، أي إلاّ ظهور ما تَوَعدَّهم به، وإطلاق الانتظار هنا استعارة تهكميّة: شبه حال تمهّلهم إلى الوقت الذي سيحلّ عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين، وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه، وهذا مثل قوله تعالى: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة} [محمد: 18] وقوله {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102] والاستثناء على حقيقته وليس من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه لأنّ المجاز في فعل {ينظرون} فقط. والقصر إضافي، أي بالنّسبة إلى غير ذلك من أغراض نسيانهم وجحودهم بالآيات، وقد مضى القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} في سورة الأنعام (158). والتّأويل توضيحُ وتفسير ما خفي، من مقصد كلام أوْ فعل، وتحقيقه، قال تعالى: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} [الكهف: 78] وقال: {هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف: 100] وقال: {ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 59] وقد تقدّم اشتقاقه ومعناه في المقدّمة الأولى من مقدّمات هذا التّفسير. وضمير {تأويله} عائد إلى (كتابٍ) من قوله: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف: 52]. وتأويله وضوح معنى ما عَدّوه محالا وكذباً، من البعث والجزاء ورسالة رسول من الله تعالى ووحدانية الإله والعقاب، فذلك تأويل ما جاء به الكتاب أي تحقيقه ووضوحه بالمشاهدة، وما بعد العّيان بيان. وقد بيّنتْه جملة {يوم يأتي تأويله يقول} إلخ، فلذلك فصلت، لأنّها تتنزل من التي قبلها منزّلة البيان للمراد من تأويله، وهو التأويل الذي سيظهر يوم القيامة، فالمراد باليوم يوم القيامة، بدليل تعلّقه بقوله: {يقول الذين نسوه من قبل} الآية فإنّهم لا يعلمون ذلك ولا يقولونه إلاّ يوم القيامة. وإتيان تأويله مجازٌ في ظهوره وتبيّنِه بعلاقة لزوم ذلك للإتيان. والتّأويل مراد به ما به ظهور الأشياء الدّالة على صدق القرآن. فيما أخبرهم وما توعّدهم. و {الذين نسوه} هم المشركون، وهم معاد ضمير {ينظرون} فكان مقتضى الظّاهر أن يقال: يقُولون، إلاّ أنّه أظهر بالموصولية لقصد التّسجيل عليهم بأنّهم نسُوه وأعرضوا عنه وأنكروه، تسجيلاً مراداً به التّنبيه على خطئِهم والنَّعي عليهم بأنّهم يجرّون بإعراضهم سوء العاقبه لأنفسهم. والنّسيان مستعمل في الإعراض والصدّ، كما تقدّم في قوله: {كما نسوا لقاء يومهم هذا} [الأعراف: 51] والمضاف إليه المقدّرُ المنبيء عنه بناءُ (قبلُ) على الضم: هو التّأويلُ، أو اليوم، أي من قبل تأويله، أو من قبل ذلك اليوم، أي في الدّنيا. والقول هنا كناية عن العلم والاعتقاد، لأنّ الأصل في الأخبار مطابقتها لاعتقاد المخبر، أي يتبيّن لهم الحقّ ويصرّحون به. وهذا القول يقوله بعضهم لبعض اعترافاً بخطئهم في تكذيبهم الرّسول صلى الله عليه وسلم وما أخبر به عن الرّسل من قبله، ولذلك جمع الرّسل هنا، مع أنّ الحديث عن المكذّبين محمّداً صلى الله عليه وسلم وذلك لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم الأمثال بالرّسل السابقين، وهم لما كذّبوه جرَّأهم تكذيبه على إنكار بعثة الرّسل إذ قالوا {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] أو لأنّهم مشاهدون يومئذ ما هو عقاب الأمم السّابقة على تكذيب رسلهم، فيصدر عنهم ذلك القول عن تأثّر بجميع ما شاهدوه من التّهديد الشّامل لهم ولمن عداهم من الأمم. وقولهم: {قد جاءت رسل ربنا بالحق} خبر مستعمل في الإقرار بخطَئهم في تكذيب الرّسل، وإنشاء للحسرة على ذلك، وإبداء الحيرة فيما ذا يَصْنعون. ولذلك رتّبوا عليه وفرعوا بالفاء قولهم: {فهل لنا من شفعاء} إلى آخره. والاستفهام يجوز أن يكون حقيقياً يقوله بعضهم لبعض، لَعلّ أحدهم يرشدهم إلى مخلص لهم من تلك الورطة، وهذا القول يقولونه في ابتداء رؤية ما يهدّدهم قبل أن يوقنوا بانتفاء الشّفعاء المحكي عنهم في قوله تعالى: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} [الشعراء: 100، 101] ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في التّمني، ويجوز أن يكون مستعملاً في النّفي. على معنى التّحسّر والتّندم. و{من} زائدة للتّوكيد. على جميع التّقادير. فتفيد توكيد العموم في المستفهم عنه، ليفيد أنّهم لا يسألون عمن توهموهم شفعاء من أصنامهم، إذ قد يئسوا منهم. كما قال تعالى: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} [الأعراف: 94] بل هم يتساءلون عن أي شفيع يشفع لهم. ولو يكون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام الذي ناصبوه العَداء في الحياة الدّنيا. ونظيره قوله تعالى في سورة المؤمن (11) {فهل إلى خروج من سبيل.} وانتصب {فيشفعوا} على جواب الاستفهام، أو التّمنّي، أو النّفي. «والشفعاء» جمع شفيع وهو الذي يسعى بالشّفاعة، وهم يُسمّون أصنامهم شفعاء قال تعالى: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]. وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} في سورة البقرة (48). وعند قوله: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} في سورة البقرة (254) وعند قوله: {من يشفع شفاعة حسنة} في سورة النّساء (85). وعطف فعل نرد} ب (أو) على مدخول الاستفهام، فيكون الاستفهام عن أحد الأمرين، لأنّ أحدهما لا يجتمع مع الآخر، فإذا حصلت الشّفاعة فلا حاجة إلى الردّ، وإذا حصل الردّ استغني عن الشّفاعة. وإذ كانت جملة {لنا من شفعاء} واقعة في حيز الاستفهام، فالتي عطفت عليها تكون واقعة في حيز الاستفهام، فلذلك تعين رفع الفعل المضارع في القراءات المشهورة، ورفعه بتجّرده عن عامل النّصب وعامل الجزم، فوقع موقع الاسم كما قدّره الزمخشري تبعاً للفراء، فهو مرفوع بنفسه من غير احتياج إلى تأويل الجملة التي قبله، بردّها إلى جملة فعليّة، بتقدير: هل يشفع لنا شفعاء كما قدّره الزّجاج، لعدم المُلجئ إلى ذلك، ولذلك انتصب: {فنعمل} في جواب {نرد} كما انتصب {فيشفعوا} في جواب {فهل لنا من شفعاء}. والمراد بالعمل في قولهم: {فنعمل} ما يشمل الاعتقاد، وهو الأهم، مثل اعتقاد الوحدانيّه والبعث وتصديق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، لأنّ الاعتقاد عمل القلب، ولأنّه تترتّب عليه آثار عمليّة، من أقوال وأفعال وامتثال. والمراد بالصّلة في قوله: {الذي كنا نعمل} ما كانوا يعملونه من أمور الدين بقرينة سياق قولهم: {قد جاءت رسل ربنا بالحق أي فنعمل ما يغاير ما صممنا عليه بعد مجيء الرّسول عليه الصّلاة والسّلام. وجملة: قد خسروا أنفسهم} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تذييلاً وخلاصة لقصّتهم، أي فكان حاصل أمرهم أنّهم خسروا أنفسهم من الآن وضلّ عنهم ما كانوا يفترون. والخسارة مستعارة لعدم الانتفاع بما يرجى منه النّفع، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} في سورة الأنعام، (12) وقوله: {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} في أوّل هذه السّورة (9). والمعنى: أنّ ما أقحموا فيه نفوسهم من الشّرك والتّكذيب قد تبيّن أنّه مفض بهم إلى تحقّق الوعيد فيهم، يوم يأتي تأويل ما توعّدهم به القرآن، فبذلك تحقّق أنّهم خسروا أنفسهم من الآن، وإن كانوا لا يشعرون. وأما قوله: وضل عنهم ما كانوا يفترون} فالضّلال مستعار للعدم طريقة التّهكّم شبه عدم شفعائهم المزعومين بضلال الإبل عن أربابها تهكّماً عليهم، وهذا التّهكّم منظور فيه إلى محاكاة ظنّهم يوم القيامة المحكي عنهم في قوله قبل {قالوا ضلوا عنا} [الأعراف: 37]. و (مَا) من قوله: {ما كانوا يفترون} موصولة، ما صْدَقها الشّفعاء الذين كانوا يدعونهم من دون الله. وحُذف عائد الصّلة المنصوب، أي ما كانوا يفترونه، أي يَكْذِبونه إذ يقولون {هؤلاء شفعاؤنا} [يونس: 18]، وهم جماد لاحظَّ لهم في شؤون العقلاء حتى يشفعوا، فهم قد ضلوا عنهم من الآن ولذلك عبّر بالمضي لأنّ الضّلال المستعار للعدم متحقّق من ماضي الأزمنة.
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} جاءت أغراض هذه السّورة متناسبة متماسكة، فإنّها ابتدئت بذكر القرآن والأمرِ باتّباعه ونبذِ ما يصدّ عنه وهو اتّباع الشّرك؛ ثمّ التّذكيرِ بالأمم التي أعرضت عن طاعة رسل الله، ثمّ الاستدلال على وحدانية الله، والامتناننِ بخلق الأرض والتّمكين منها، وبخلق أصل البشر وخَلقهم، وخُلَل ذلك بالتّذكير بعداوة الشّيطان لأصل البشر وللبشر في قوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16]. وانتُقل من ذلك إلى التّنديد على المشركين فيما اتّبعوا فيه تسويل الشّيطان من قوله: {وإذا فعلوا فاحشة} [الأعراف: 28]، ثمّ بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله على البشر في قوله: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} [الأعراف: 35] الآية. وبأن المشركين ظَلموا بنكث العهد بقوله: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته} [الأعراف: 37] وتوعدهم وذكّرهم أحوال أهل الآخرة، وعَقِب ذلك عاد إلى ذكر القرآن بقوله: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف: 52] وأنهاه بالتّذييل بقوله: {قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} [الأعراف: 53]. فلا جرم تهيأت الأسماع والقلوب لتلقي الحجّة على أنّ الله إله واحد، وأنّ آلهة المشركين ضلال وباطل، ثمّ لِبيان عظيم قدرته ومجده فلذلك استؤنف بجملة {إن ربكم الله} الآية، استئنافاً ابتدائياً عاد به التّذكير إلى صدر السّورة في قوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3]، فكان ما في صدر السّورة بمنزلة المطلوب المنطقي، وكان ما بعده بمنزله البرهان، وكان قوله: {إن ربكم الله} بمنزلة النّتيجة للبرهان، والنتيجة مساوية للمطلوب إلاّ أنّها تؤخَذُ أوضحَ وأشد تفصيلاً. فالخطاب موجّه إلى المشركين ابتداء، ولذلك كان للتّأكيد بحرف (إنّ) موقعه لرد إنكار المشركين انفراد الله بالرّبوبيه. وإذ كان ما اشتملت عليه هذه الآية يزيد المسلمين بصيرة بعظم مجد الله وسعة ملكه، ويزيدهم ذكرى بدلائل قدرته، كان الخطاب صالحاً لتناول المسلمين، لصلاحية ضمير الخطاب لذلك، ولا يكون حرف (إن) بالنّسبة إليهم سدى، لأنّه يفيد الاهتمام بالخبر، لأنّ فيه حظاً للفريقين، ولأنّ بعض ما اشتمل عليه (ما) هو بالمؤمنين أعلق مثل {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف: 55] وقوله: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56] وبعضه بالكافرين أنسب مثل قوله: {كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} [الأعراف: 57]. وقد جعل المخبرُ عنه الرب، والخبرُ اسمَ الجلالة: لأن المعنى أنّ الرب لكم المعلومَ عندكم هو الذي اسمه الدال على ذاته: اللَّهُ، لا غيره ممَن ليس له هذا الاسم، على ما هو الشّأن، فهي تعريف المسند في نحو: أنا أخوك، يقال لمن يعرف المتكلّم ويعرف أنّ له أخاً ولا يعرف أنّ المتكلم هو أخوه. فالمقصود من تعريف المسند إفادة ما يسمّى في المنطق بحمل المواطاة، وهو حمل (هُو هُو) ولذلك يخيّر المتكلّم في جعل أحد الجزأين مسند إليه، وجعل الآخر مسنداً، لأنّ كليهما معروف عند المخاطب، وإنّما الشّأن أن يجعل أقواهما معرفة عند المخاطب هو المسندَ إليه. ليكون الحمل أجدى إفادة، ومن هذا القبيل قول المعرّي يصف فارساً في غارة: يخُوض بَحْراً نَقْعه ماؤُه *** يحُمله السّابح في لِبْدِهِ إذ قد عَلِم السامع أنّ للفارس عند الغارة نقعاً. وعلم أنّ الشّاعر أثبت للفارس بَحراً وأنّ للبحر ماء، فقد صار النّقع والبحر معلومين للسّامع، فأفاده أنّ نقع الفارس هو ماء البحر المزعوم، لأنّه أجدى لمناسبة استعارة البحر للنّقع، وإلاّ فما كان يعوز المعرّي أن يقول: ماؤه نقعه فمن انتقد البيت فإنّه لم ينصفه. وأُكِّد هذا الخبر بحرف التّوكيد، وإن كان المشركون يثبتون الربوبيّة لله، والمسلمون لا يمترون في ذلك، لتنزيل المشركين مِن المخاطبين منزلة من يتردّد في كون الله ربّاً لهم لكثرة إعراضهم عنه في عباداتهم وتوجهاتهم. وقولُه: {الذي خلق السموات والأرض} صفة لاسم الجلالة، والصّلة مؤذنة بالإيماء إلى وجه بناء الخبر المتقدّم، وهو {إن ربكم الله} لأنّ خلق السّماوات والأرض يكفيهم دليلاً على انفراده بالإلهية، كما تقدّم عند قوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} بسورة الأنعام (1). وقوله: في ستة أيام ثم استوى على العرش} تعليم بعظيم قدرته، ويحصل منه للمشركين زيادة شعور بضلالهم في تشريك غيره في الإلهية، فلا يدلّ قوله: {في ستة أيام} على أنّ أهل مكّة كانوا يعلمون ذلك، وفيه تحَدّ لأهل الكتاب كما في قوله تعالى: {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197] وليس القصد من قوله: {في ستة أيام} الاستدلال على الواحدانية، إذ لا دلالة فيه على ذلك. وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السّماوات والأرض مدّرجاً، وأن لا يكون دفعة، لأنّه جعل العوالم متولِّداً بعضُها من بعض، لتكون أتقن صنعاً ممّا لو خُلقت دَفعة، وليكون هذا الخلق مَظْهَراً لصفتي علممِ الله تعالى وقدرتِه، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة، لكنّ العلم والحكمة اقتضيا هذا التّدرج، وكانت تلك المدّة أقل زمن يحصل فيه المراد من التّولّد بعظيم القدرة. ولعلّ تكرّر ذكر هذه الأيّام في آيات كثيرة لقصد التّنبيه إلى هذه النّكتة البديعة، من كونها مظهر سعة العلم وسعة القدرة. وظاهر الآيات أنّ الأيّام هي المعروفة للنّاس، التي هي جمعُ اليوم الذي هو مدّة تقدّر من مبدأ ظهور الشّمس في المشرق إلى ظهُورها في ذلك المكان ثانية، وعلى هذا التّفسير فالتّقدير في ما يماثل تلك المدّة ستّ مرّات، لأنّ حقيقة اليوم بهذا المعنى لم تتحقّق إلاّ بعد تمام خلق السّماء والأرض، ليمكن ظهور نور الشّمس على نصف الكرة الأرضية وظهور الظلمة على ذلك النّصف إلى ظهور الشّمس مرّة ثانية، وقد قيل: إنّ الأيّام هنا جمع اليوم من أيّام الله تعالى الذي هو مدّة ألف سنة، فستّة أيام عبارة عن ستّة آلاف من السّنين نظراً لقوله تعالى: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47] وقوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة: 5]، ونقل ذلك عن زيد بن أرقم واختاره النّقاش، وما هو ببعيد، وإن كان مخالفاً لما في التّوراة، وقيل المراد: في ستّة أوقات، فإنّ اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} [الأنفال: 16] أي حين إذ يلقاهم زَحْفاً، ومقصود هذا القائل أنّ السماوات والأرض خُلقت عالَماً بعد عالم ولم يشترك جميعُها في أوقات تكوينها، وأيّاً مّا كان فالأيام مراد بها مقادير لا الأيام التي واحدها يوم الذي هو من طلوع الشّمس إلى غروبها إذ لم تكن شمس في بعض تلك المدّة، والتّعمّق في البحث في هذا خروج عن غرض القرآن. والاستواء حقيقتهُ الاعتدال، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء، كما في قوله تعالى في صفة جبريل {فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى} [النجم: 6 8]. والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته، أشهرها القصد والاعتلاء، وقد التُزم هذا اللّفظ في القرآن مسنداً إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية، كما في هذا الآية. ونظائرُها سبعُ آيات من القرآن: هنا. وفي يونس، والرّعد، وطه، والفرقان، وألم السجدة، والحديد، وفُصِّلت. فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بِسببها أجدرَ بالدّلالة على المعنى المرادِ تبليغُه مجملاً ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته، ولذلك اختِير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون. فالاستواء يعبِّر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيلِ: لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شؤونه تعالى، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معاننٍ من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلاّ بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا. وقد كان السّلف يتلقّون أمثالها بلا بحثثٍ ولا سؤال لأنّهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملاً، ويسمّون أمثالَها بالمتشابهات، ثمّ لمّا ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون: استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفاً، وقد بيّنتُ أنّ مثل هذا من القسم الثّاني من المتشابه عند قوله تعالى: {وأخر متشابهات} في سورة آل عمران (7)، فكانوا يأبون تأويلها. وقد حكى عياض في المدارك} عن سفيان بن عيينة أنّه قال: سأل رجل مالكاً فقال: الرّحمانُ على العرش استوى. كيفَ استوى يا أبا عبد الله؛ فسكت مالكٌ مليّاً حتّى علاه الرّحَضاء ثمّ سُرّيَ عنه، فقال: «الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإنّي لأظنّك ضالاً» واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة، وفي بعضها أنّه قال لمن سأله: «وأظنّك رجُلَ سوء أخْرِجُوه عنّي» وأنّه قال: «والسؤالُ عنه بدعة». وعن سفيان الثّوري أنّه سئل عنها: «فقال: فَعَلَ الله فعلا في العرش سمّاه استواء». قد تأوّله المتأخّرون من الأشاعرة تأويلات، أحسنها: ما جنح إليه إمام الحرمين أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قولَ الأخطل: قد استوى بِشْرٌ على العراق *** بغيرِ سيف ودم مُهْرَاق وأُراه بعيداً، لأنّ العرش ما هو إلاّ من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية، وقد قال أهل اللّغة: إنّ معانيه تختلف باختلاف تعديته بعَلى أو بإلى، قال البخاري، عن مجاهد: استوى عَلا على العرش، وعن أبي العالية: استوى إلى السّماء ارتفع فسَوى خلقهن. وأحسب أنّ استعارته تختلف بقرينة الحَرف الذي يُعدّى به فعله، فإن عُدّي بحرف (على) كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء، مستعمل في اعتلاء مجازي يدلّ على معنى التّمكّن، فيحتمل أنّه أريد منه التّمثيل، وهو تمثيل شأننِ تصرّفه تعالى بتدبير العوالم، ولذلك نجده بهذا التّركيب في الآيات السّبع واقعاً عقب ذكر خلق السّماوات والأرض، فالمعنى حينئذ: خلقَها ثمّ هو يدبّر أمورها تدبير المَلِك أمور مملكته مستوياً على عَرشه. وممّا يقرب هذا المعنى قول النّبيء صلى الله عليه وسلم " يَقْبِض الله الأرضَ ويطوي السّماوات يومَ القيامة ثمّ يقول: أنا المَلِك أيْنَ ملوك الأرض ". ولذلكَ أيضاً عُقب هذا التّركيب في مواقعه كلّها بما فيه معنى التّصرف كقوله هنا {يغشى الليل النهار الخ، وقوله في سورة يونس (3): {يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} وقوله في سورة الرّعد (2): {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات} وقوله في سورة ألم السجدة (4، 5): {مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} وكمال هذا التّمثيل يقتضي أن يكون كلّ جزءٍ من أجزاء الهيئة الممثّلة مشبهاً بجزء من أجزاء الهيئة الممثَّل بها، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثّلة مشابهاً لعرش المَلك في العظمة، وكونه مصدر التّدبير والتّصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها. وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه. فأمّا إذا عُدّي فعل الاستواء بحرف اللاّم فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة، كما في قوله: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29]. وقد نحا صاحب «الكشاف» نحواً من هذا المعنى، إلاّ أنّه سلك به طريقة الكناية عن المُلك: يقولون استوى فلان على العرش يريدون مُلك. والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليْه المَلِك، قال تعالى: {ولها عرش عظيم} [النما: 23] وقال: {ورفع أبويه على العرش} [يوسف: 100]، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاءِ الهيئة المشبهة مماثلاً لجزءٍ من أجزاء الهيئة المشبَّه بها، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة، كما قدّمتُه آنفاً. وإذ قد كان هذا التّمثيل مقصوداً لتقريب شأن من شؤون عظمة مُلك الله بحال هيئةٍ من الهيئات المتعارفة، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبّرين للأمور المتعارفة أعني الملوك، وذلك شعارُ العرش الذي من حَوْله تصدر تصرّفات الملك، فإنّ تدبير الله لمخلوقاته بأمر التّكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة، وقد بيّن القرآن عَمَل بعضهم مثل جبريل عليه السّلام وملَككِ الموت، وبيَّنت السنة بعضها: فذكرت ملك الجبال، وملك الرّياح، والملك الذي يباشر تكوين الجنين، ويكتُب رزقَه وأجلَه وعاقبتَه، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلويّة موجوداً منوّها به سمّاه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة. ولمّا ذكر خلق السّماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنّه موجود قبل هذا الخلق. وبيّنت السنّة أنّ العرش أعظم من السماوات وما فيهن، من ذلك حديث عمران بن حصين أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم قال: " كان الله ولم يكن شيء قبلَه وكان عرشه على الماء ثمّ خلق السّماوات والأرض " وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال في حديث طويل: " فإذا سألتم الله فاسألُوه الفِردوس فإنّه أوسط الجنّة، وأعلَى الجنّة وفوقَه عرش الرّحمان ومنه تفجَّر أنهار الجنّة " وقد قيل إنّ العرشِ هو الكرسي وأنّه المراد في قوله تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} كما تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة (255). وقد دلّت (ثُمّ) في قوله: {ثم استوى على العرش} على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش، تنبيهاً على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييراً في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود: إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38]. وجملة {يغشى الليل النهار} في موضع الحال من اسم الجلالة، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش، وتنبيه على المقصود من الاستواء، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس (3) وسورة الرّعد (2) بقوله: {يدبر الأمر} وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليللِ الحدوث، ولكونه متكرّراً حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم. والإغشاء والتّغشية: جعل الشّيء غاشياً، والغَشْي والغشيان حقيقته التّغطيّة والغمّ. فمعنى: {يغشى الليل النهار} أنّ الله يجعل أحدهما غاشياً الآخر. والغشي مستعار للإخفاء، لأنّ النّهار يزيل أثر اللّيل واللّيل يزيل أثر النّهار، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب: جعل الليل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي، ولهذا استغنى بقوله: {يغشى الليل النهار} عن ذكر عكسه ولم يقل: والنّهار اللّيل، كما في آية {يكور الليل على النهار} [الزمر: 5] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى، ويجوز العكس إذا أمِن اللّبس، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص {يُغْشِي} بضمّ الياء وسكون الغين وتخفيف الشّين. وقرأه حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، ويعقوب، وخلَف بضمّ الياء وفتح الغين وتشديد الشّين وهما بمعنى واحد في التّعدية. وجملة: {يطلبه} إن جعلت استينافاً أو بدلَ اشتمال من جملة (يغشي) فأمرها واضح، واحتمل الضّمير المنصوب في (يطلبه) أن يعود إلى اللّيل وإلى النّهار، وإن جعلت حالا تعين أن تعتبر حالاً من أحد المفعولين على السَّواء فإنّ كلاً اللّيل والنّهار يعتبر طالباً ومطلوباً، تبعاً لاعتبار أحدهما مفعولاً أوّل أو ثانياً. وشُبّه ظهور ظلام اللّيل في الأفق ممتداً من المشرق إلى المغرب عند الغروب واختفاء نور النّهار في الأفق ساقطاً من المشرق إلى المغرب حتّى يعمّ الظّلامُ الأفقَ بطلب اللّيل النّهارَ، على طريقة التّمثيل، وكذلك يفهم تشبيه امتداد ضوء الفجر في الأفق من المشرق إلى المغرب واختفاءُ ظلام اللّيل في الأفق ساقطاً في المغرب حتّى يعمّ الضياء الأفقَ: بطلب النّهار اللّيلَ على وجه التّمثيل، ولا مانع من اعتبار التّنازع للمفعولين في جملة الحال كما في قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27] وقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}. والحثيث: المسرع، وهو فعيل بمعنى مفعول، من حثَه إذا أعجله وكَرّر إعجاله ليبادر بالعجلة، وقريب من هذا قول سلامة من جَنْدَل يذكر انتهاء شبابه وابتداء عصر شيْبه: أوْدَى الشّبابُ الذي مَجْدٌ عواقِبه *** فيهِ نَلَذَّ ولا لَذّاتتِ للشّيب ولَّى حثيثاً وهذا الشّيبُ يَتَبَعُه *** لو كان يُدْرِكه ركْضُ اليَعاقيبِ فالمعنى يطلبه سريعاً مُجدّاً في السّرعة لأنّه لا يلبث أن يعفى أثره. {والشمس والقمر والنجوم} بالنّصب في قراءة الجمهور معطوفات على السّماوات والأرض، أي وخلق الشّمسَ والقمر والنّجوم، وهي من أعظم المخلوقات التي اشتملت عليها السّماوات. و {مسخرات} حال من المذكورات. وقرأ ابن عامر برفع {الشمس} وما عطف عليه ورفْععِ {مسخرات}، فتكون الجملة حالا من ضمير اسم الجلاله كقوله: {يغشى الليل النهار}. وتقدّم الكلام على اللّيل والنّهار عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} في سورة البقرة (164) ويأتي في سورة الشّمس. والتّسخير حقيقته تذلِيل ذي عمل شاققٍ أو شاغللٍ بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض، فمنه تسخير العبيد والأسرى، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل، ومنه تسخير البقر للحلب، والغنم للجزّ. ويستعمل مجازاً في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه، بحيلة أو إلهام تصريفاً يصيّره من خصائصه وشؤونه، كتسخير الفُلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف، وتسخير السّحاب للأمطار، وتسخير النّهار للعمل، واللّيل للسّكون، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف، والشّمس للدّفء في الشّتاء، والظلّ للتبرد في الصّيف، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّداً عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزُبية أو نحوها، ولذلك قال الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثية: 13] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة. فقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} أطلق التّسخير فيه مجازاً على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيعَ غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط. ولفظ الأمر في قوله: {بأمره} مستعمل مجازاً في التّصريف بحسب القدرة الجارية على وفق الإرادة. ومنه أمر التّكوين المعبّر عنه في القرآن بقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] لأن (كن) تقريب لنفاذ القدرة المسمّى بالتّعلّق التّسخيري عند تعلّق الإرادة التّنجيزي أيضاً فالأمر هنا من ذلك، وهو تصريف نظام الموجودات كلّها. وجملة: {ألا له الخلق والأمر} مستأنفة استئناف التّذييل للكلام السّابق من قوله: {الذي خلق السموات والأرض} لإفادة تعميم الخَلْق. والتّقدير: لما ذُكر آنفاً ولِغيره. فالخلق: إيجاد الموجودات، والأمر تسخيرها للعمل الذي خلقت لأجله. وافتتحت الجملة بحرف التّنبيه لتَعِي نفوسُ السّامعين هذا الكلام الجامع. واللام الجارة لضمير الجلالة لام المِلك. وتقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه. والتّعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في مِلك الله تعالى، فليس لغيره شيء من هدا الجنس، وهو قصر إضافي معناه: ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر، وأمّا قصر الجنس في الواقع على الكون في مِلك الله تعالى فذلك يرجع فيه إلى القرائن، فالخلق مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى، وأمّا الأمر فهو مقصور على الكون في ملك الله قصراً ادعائياً لأنّ لكثيرٍ من الموجودات تدبيرَ أمور كثيرة، ولكن لما كان المدبِّر مخلوقاً لله تعالى كان تدبيره راجعاً إلى تدبير الله كما قيل في قصر جنس الحمْد في قوله: {الحمد لله} [الفاتحة: 2]. وجملة {تبارك الله رب العالمين} تذييل معترضة بين جملة {إن ربكم الله} وجملة {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [الأعراف: 55] إذ قد تهيّأ المقام للتّذكير بفضل الله على النّاس، وبنافع تصرّفاته، عقب ما أجرى من إخبار عن عظيم قدرته وسعة علمه وإتقاننِ صنعه. وفعل {تبارك} في صورة اشتقاقه يؤذن بإظهار الوصف على صاحبه المتّصف به مثل: تثاقل، أظهر الثّقل في العمل، وتعالل، أي أظهر العلّة، وتعاظم: أظهر العظمة، وقد يستعمل بمعنى ظهور الفعل على المتّصف به ظهوراً بيِّناً حتى كأنّ صاحبه يُظهره، ومنه: {تعالى الله} [النمل: 63] أي ظَهر علوّه، أي شرفه على الموجودات كلّها، ومنه {تبارك} أي ظَهرت بركته. والبركة: شدّة الخير، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} في سورة آل عمران (96)، وقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} في سورة الأنعام (92). فبركة الله الموصوفُ بها هي مجده ونزاهته وقدسه، وذلك جامع صفات الكمال، ومن ذلك أنّ له الخلق والأمر. وإتْباع اسم الجلالة بالوصف وهو رب العالمين في معنى البيان لاستحقاقه البركة والمجد، لأنّه مفيض خيرات الإيجاد والإمداد، ومدبّر أحوال الموجودات، بوصف كونه ربّ أنواع المخلوقات، ومضى الكلام على {العالمين} في سورة الفاتحة (2).
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} استئناف جاء معترضاً بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها. فالجملة معترضة بين جملة {يغشى الليل النهار} [الأعراف: 54] وجملة: {وهو الذي يرسل الرياح} [الأعراف: 57] جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فُرص تهنُّؤ القلوب للذّكرى. والخطاب ب {ادعوا} خاص بالمسلمين لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب، وهو تقريب للؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبّته، وشاهدُه قوله بعده: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]. والخطاب مُوَجَّه إلى المسلمين بقرينة السياق. و (الدّعاء) حقيقته النّداء، ويطلق أيضاً على النّداء لطلب مهمّ، واستعمل مجازاً في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال، كما في الرّكوع والسّجود، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن. والظاهر أنّ المراد منه هنا الطّلب والتّوجه، لأنّ المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة، وإنّما المهمّ إشعارهم بالقرب من رحمة ربّهم وإدناء مَقامهم منها. وجيء لتعريف الرّب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب، مع وجود معاد قريب في قوله: {تبارك الله} [الأعراف: 54] ودون ضمير المتكلّم، لأنّ في لفظ الرّب إشعاراً بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية، وليتوسّل بإضافة الرّب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرّب بهم كقوله: {بل الله مولاكم} [آل عمران: 150]. والتّضرّع: إظهار التّذلل بهيئة خاصة، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع، لأنّه تذلّل جهري، وقد فُسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام (63): {تدعونه تضرعاً وخفية} بالجهر بالدّعاء، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخُفية، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله {ادعوه خوفاً وطمعاً} [الأعراف: 56] وتكون، الواو للتقسيم بمنزلة (أو) وقد قالوا: إنّها فيه أجود من (أوْ). ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل، فيكون مصدراً بمعنى الحال، أي متذلّلين، أو مفعولاً مطلقاً ل {ادعوا}، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه، وجعلوا قوله: وخفية} مأموراً به مقصوداً بذاته، أي ادعوه مُخفين دعاءكم، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه، وهذا خطأ: فإنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم دعا علَناً غير مرّة. وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال: «اللّهمّ اسْقِنا» وقال: «اللّهمّ حَوالَيْنا ولا علينا» وقال: «اللّهمّ عليك بقريش» الحديث. وما رويت أدعيته إلاّ لأنّه جهر بها يسمعها من رَوَاها، فالصّواب أنّ قوله: {تضرعاً} إذنٌ بالدّعاء بالجهر والإخفاء، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع. وقرأ الجمهور {وخفية} بضمّ الخاء وقرأه أبو بكر بكسر الخاء وتقدّم في الأنعام. وجملة {إنه لا يحب المعتدين} واقعة موقع التّعليل للأمر بالّدعاء، إشارة إلى أنّه أمر تكريم للمسلمين يتضمّن رضى الله عنهم، ولكن سلك في التّعليل طريق إثبات الشّيء بإبطال ضدّه، تنبيهاً على قصد الأمرين وإيجازاً في الكلام. ولكون الجملة واقعَة موقع التّعليل افتتحت ب (إنّ) المفيدة لمجرّد الاهتْمام، بقرينة خلو المخاطبين عن التّردد في هذا الخبر، ومن شأن (إنّ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل والرّبط، وتقوم مقام الفاء، كما نبّه عليه الشّيخ عبد القاهر. وإطلاق المحبّة وصفاً لله تعالى، في هذه الآية ونحوها، إطلاقٌ مجازي مراد بها لازم معنى المحبّة، بناء على أنّ حقيقة المحبّة انفعال نفساني، وعندي فيه احتمال، فقالوا: أريد لازم المحبّة، أي في المحبوب والمحِب، فيلزمها اتّصاف المحبوب بما يرضي المحِب لتنشأ المحبّة التي أصلها الاستحسان، ويلزمها رضى المحِب عن محبوبه وإيصال النّفع له. وهذان اللاّزِماننِ مُتَلازمان في أنفسهما. فإطلاق المحبّة وصفاً لله مجاز بهذا اللاّزم المركب. والمراد ب {المعتدين: المشركون، لأنّ يرادف الظّالمين. 6 والمعنى: ادعوا ربّكم لأنّه يحبّكم ولا يحبّ المعتدين، كقوله: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنّه لا يستجيب دعاءَ الكافرين، قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال} [الرعد: 14] على أحد تأويلين فيها. وحمل بعض المُفسّرين التّضرّع على الخضوع، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدّعاء الخفي حتّى بَالغ بعضهم فجعل الجهر بالدّعاء منهياً عنه، وتجاوز بعضهم فجعل قوله: {إنه لا يحب المعتدين} تأكيداً لمعنى الأمر بإخفاء الدّعاء، وجعل الجهر بالدّعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبّهم الله. ونقل ذلك عن ابن جريج، وأحسب أنّه نقلٌ عنه غير مضبوط العبارة، كيف وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جهراً ودعا أصحابه.
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض بَعْدَ إصلاحها}. عُطف النّهي عن الفساد في الأرض على جملة {إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55] عَطْفاً على طريقة الاعتراض، فإنّ الكلام لمّا أنبأ عن عناية الله بالمسلمين وتقريبه إياهم إذ أمرهم بأن يدعوه وشرّفهم بذلك العنوان العظيم في قوله: {ربكم} [الأعراف: 55]، وعرّض لهم بمحبّته إياهم دون أعدائهم المعتدين، أعقبه بما يحول بينهم وبين الإدلال على الله بالاسترسال فيما تُمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشّهوية والغَضبيّة، فإنّهما تجنيان فساداً في الغالب، فذكَّرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزّهاً عن أن يخالطه فساد، فإنّهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد، فأشبه موقعَ الاحتراس، وكذلك دأب القرآن أن يعقِّب التّرغيب بالتّرهيب، وبالعكس، لئلاّ يقع النّاس في اليأس أو الأمْن. والاهتمامُ بدرء الفساد كان مَقَاماً هنا مقتضياً التّعجيل بهذا النّهي مُعترضاً بين جملتي الأمر بالدّعاء. وفي إيقاع هذا النّهي عقب قوله {إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55] تعريض بأنّ المعتدين وهم المشركون مفسدون في الأرض، وإرْباءُ للمسلمين عن مشابهتهم، أي لا يليق بكم وأنتم المقرّبون من ربّكم، المأذونُ لكم بدعائه، أن تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين. والإفساد في الأرض والإصلاح تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} في سورة البقرة (11)، وبيّنّا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح، ومر هنالك القول في حذف مفعول تفسدوا} ممّا هو نظير ما هنا. و {الأرض} هنا هي الجسم الكُروي المعبّر عنه بالدّنيا. والإفساد في كلّ جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض، وقد يكون بعض الإفساد مؤدّياً إلى صلاح أعظم ممّا جرّه الإفساد من المضرّة، فيترجّح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلاّ به، فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير، ونهى أبو بكر رضي الله عنه عن قطع شجر العدوّ، لاختلاف الأحوال. والبعدية في قوله: {بعد إصلاحها} بعديةٌ حقيقيةٌ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى: {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها} [فصلت: 10] على نظام صالح بما تحتوي عليه، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض، وخلق له ما في الأرض، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألْسِنَةِ المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار، فذلك النّظامُ الأصلي، والقانُونُ المعزّزُ له، كلاهما إصلاح في الأرض، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحاً، والثّاني جعل الضّار صالحاً بالتّهذيب أو بالإزالة، وقد مضَى في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} في سورة البقرة (11)، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحاً وبين جعل الفاسد صالحاً. فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد، وليس في معنى الفعل، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول، فإذا غُيّر ذلك النّظام فأفْسِد الصّالحُ، واستُعمل الضّار على ضرّه، أو استبقى مع إمكان إزالته، كان إفساداً بعد إصلاح، كما أشار إليه قوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال: 73]. والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنّه إفساد لما هو حسن ونافع، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض. عود إلى أمر الدّعاء لأنّ ما قبله من النّهي عن الإفساد أشبه الاحتراس المعترض بين أجزاء الكلام، وأعيد الأمر بالدّعاء ليبنى عليه قوله: {خوفاً وطمعاً} قصداً لتعليم الباعث على الدّعاء بعد أن عُلّموا كيفيته، وهذا الباعث تنطوي تحته أغراض الدّعاء وأنواعه، فلا إشكال في عطف الأمر بالدّعاء على مِثله لأنّهما مختلفان باختلاف متعلّقاتهما. والخوف تقدّم عند قوله تعالى: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229]. والطّمع تقدّم في قوله: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} في سورة البقرة (75). وانتصاب خوفاً وطمعاً} هنا على المفعول لأجله، أي أنّ الدّعاء يكون لأجل خوف منه وطمع فيه، فحذف متعلِّق الخوف والطّمع لدلالة الضّمير المنصوب في {ادعوه}. والواو للتّقسيم للدّعاء بأنّه يكون على نوعين: فالخوف من غضبه وعقابه، والطّمع في رضاه وثوابه، والدّعاء لأجل الخوف نحو الدّعاء بالمغفرة، والدّعاء لأجل الطّمع نحو الدّعاء بالتّوفيق وبالرّحمة. وليس المراد أنّ الدّعاء يشتمل على خوف وطمع في ذاته كما فسرّ به الفخر في السّؤال الثّالث لأنّ ذلك وإن صحّ في الطّمع لا يصحّ في الخوف إلاّ بسماجة. وفي الأمر بالدّعاء خوفاً وطمعاً دليل على أنّ من حظوظ المكلّفين في أعمالهم مراعاة جانب الخوف من عقاب اللَّه والطّمععِ في ثوابه، وهذا ممّا طفحت به أدلّة الكتاب والسنّة، وقد أتى الفخر في السّؤال الثّاني في تفسير الآية بكلام غيْر مُلاق للمعروف عند علماء الأمّة، ونزع به نزعة المتصوّفة الغلاة. وتعقبّه يطول، فدونك فانظره إن شئت. وقد شمل الخوف والطّمع جميع ما تتعلّق به أغراض المسلمين نحوّ ربّهم في عاجلهم وآجلهم، ليدعُوا الله بأن ييسِر لهم أسباب حصول ما يطمعون، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون. وهذا يقتضي توجّه همّتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب، وإلى امتثال المأمورات لأجل الطّمع في الثّواب، فلا جرم أنّه اقتضى الأمرَ بالإحسان، وهو أن يعبدُوا الله عبادة من هو حاضر بين يديه فيستحيي من أن يعصيه، فالتّقدير: وادعوه خوفاً وطمعاً وأحسنوا بقرينة تعقيبه بقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}. وهذا إيجاز. وجملة: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} واقعة موقع التّفريع على جملة {وادعوه}، فلذلك قرنت ب {إن} الدّالة على التّوكيد، وهو لمجرّد الاهتمام بالخبر، إذ ليس المخاطبون بمتردّدين في مضمون الخبر، ومن شأن (إن) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها، فتغني عن فاء التّفريع، ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها فلم تعطف لإغناء (إنّ) عن العاطف. و {رحمة الله}: إحسانه وإيتاؤه الخبر. والقرب حقيقته دُنُّو المكان وتجاوره، ويطلق على الرّجاء مجازاً يقال: هذا قريب، أي ممكن مرجو، ومنه قوله: {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} [المعارج: 6، 7] فإنّهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان. ودلّ قوله {قريب من المحسنين} على مقدّر في الكلام، أي وأحسنوا لأنّهم إذا دَعوا خوفاً وطعماً فقد تهيَّأوا لنبذ ما يوجب الخوف، واكتساب ما يوجب الطّمع، لئلا يكون الخوف والطّمع كاذبين، لأنّ من خاف لا يُقدم على المخوف، ومن طمع لا يَترك طلب المطموع، ويتحقّق ذلك بالإحسان في العمل ويلزم من الإحسان ترك السَيِّئات، فلا جرم تكون رحمة الله قريباً منهم، وسكت عن ضد المحسنين رفقاً بالمؤمنين وتعريضاً بأنّهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرّحمة عنهم. وعدم لحاق علامة التّأنيث لوصففِ {قريب} مع أنّ موصوفه مؤنّث اللّفظ، وجَّهه علماء العربيّة بوجوه كثيرة، وأشار إليها في «الكشاف». وجلّها يحوم حول تأويل الاسم المؤنّث بما يرادفه من اسممٍ مذكّر، أو الاعتذارِ بأنّ بعض الموصوف به غيرُ حقيقي التّأنيث كما هنا، وأحسنها عندي قول الفراء وأبي عبيدة: أنّ قريباً أو بعيداً إذا أطلق على قرابة النّسب أو بُعد النّسب فهو مع المؤنّث بتاء ولا بُدّ، وإذا أطلق على قُرب المسافة أو بُعدها جاز فيه مطابقة موصوفه وجاز فيه التّذكير على التّأويل بالمكان، وهو الأكثر، قال الله تعالى: {وما هي من الظالمين ببعيد} [هود: 83] وقال: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} [الأحزاب: 63]. ولمّا كان إطلاقه في هذه الآية على وجه الاستعارة من قرب المسافة جرى على الشّائع في استعماله في المعنى الحقيقي، وهذا من لطيف الفروق العربيّة في استعمال المشترك إزالة للإبهام بقدر الإمكان.
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} جملة: {وهو الذي يرسل الرياح} عطف على جملة: {يغشي الليل النهار} [الأعراف: 54] وقد حصلت المناسبة بين آخر الجمل المعترضة وبين الجملة المعترض بينها وبين ما عُطفت عليه بأنّه لما ذكر قرب رحمته من المحسنين ذكَر بعضاً من رحمته العامة وهو المطر. فذِكر إرسال الرّياح هو المقصود الأهم لأنّه دليل على عظم القدرة والتّدبير، ولذلك جعلناه معطوفاً على جملة: {يغشي الليل النهار} [الأعراف: 54] أو على جملة: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]. وذِكْر بعض الأحوال المقارنة لإرسال الرّياح يحصل منه إدماجُ الامتنان في الاستدلال وذلك لا يقتضي أنّ الرّياح لا ترسل إلاّ للتبشير بالمطر، ولا أنّ المطر لا ينزل إلاّ عَقب إرسال الرّياح، إذ ليس المقصود تعليم حوادث الجَو، وإذ ليس في الكلام ما يقتضي انحصار الملازمة وفيه تعريض ببشارة المؤمنين بإغداق الغيث عليهم ونذارةِ المشركين بالقحط والجوع كقوله {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً} [الجن: 16] وقوله {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10]. وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة، فإرسال الرّياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها، وحَسَّن هذه الاستعارةَ أنّ الرّيح مسخّرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشُبهت بالعاقل المرسَل إلى جهة مَّا، ومن بدائع هذه الاستعارة أنّ الرّيح لا تفارق كُرَة الهواء كما تقدّم عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} الآية في سورة [البقرة: 164]. فتصريفُ الرّياح من جهة إلى جهة أشبَهُ بالإرساللِ مِنْه بالإيجاد. والرّياح: جمع ريح، وقد تقدّم في سورة البقرة. وقرأ الجمهور: الرّياح} بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخَلف: الرّيحَ بصيغة المفرد باعتبار الجنس، فهو مساو لقراءة الجمع، قال ابن عطيّة: من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد، لأنّ الرّياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرّحمة، كقوله: {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر: 22] وأكثر ذكر الرّيح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله {ريح فيها عذاب أليم} [الأحقاف: 24] ونحو ذلك. ومن قرأ بالإفراد فتقييدها بالنّشر يزيل الاشتراك أي الإيهام. والتّحقيق أنّ التّعبير بصيغة الجمع قد يراد به تعدّد المهابّ أو حصول الفترات في الهُبوب، وأنّ الإفراد قد يراد به أنّها مدفوعة دفعة واحدة قويَّة لا فترة بين هبَاتها. وقوله: {نشراً} قرأه نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر: نُشُراً بضمّ النّون والشّين على أنّه جمع نَشُور بفتح النّون كرَسُول ورُسُل، وهو فعول بمعنى فاعل، والنَّشور الرّياح الحيّة الطيّبة لأنّها تنثر السّحاب، أي تبثُّه وتكثره في الجوّ، كالشّيء المنشور، ويجوز أن يكون فَعولاً بمعنى مفعول، أي منشورة، أي مبْثوثة في الجهات، متفرّقة فيها، لأنّ النّشر هو التّفريق في جهات كثيرة. ومعنى ذلك أنّ ريح المَطر تكون ليّنة، تجيء مرّة من الجنوب ومرّة من الشّمال، وتتفرّق في الجهات حتّى ينشأ بها السّحاب ويتعدّد سحابات مبثوثة، كما قال الكميت في السّحاب: مَرَتْهُ الجَنُوبُ بِأنْفَاسِهَا *** وحَلَّتْ عَزَالِيَه الشَّمْأل ومن أجل ذلك عبّر عنها بصيغة الجمع لتعدّد مهابِّها، ولذلك لم تجمع فيما لا يحمد فيه تعود المهاب كقوله {وجرين بهم بريح طيبة} [يونس: 22] من حيث جريُ السّفن إنّما جيّدُهُ بريح متّصلة. وقرأه ابن عامر {نُشْراً} بضم النّون وسكون الشّين وهو تخفيف نُشُر الذي هو بضمّتين كما يقال: رُسْل في رُسُل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بفتح النّون، وسكون الشّين على أنّه مصدر، وانتصب إمّا على المفعولِية المطلقة لأنّه مرادف ل (أرْسل) بمعناه المجازي، أي أرسلها إرسالاً أو نَشَرها نَشْراً، وإمّا على الحال من الرّيح، أي ناشرة أي السّحاب، أو من الضّمير في (أرسل) أي أرسلها ناشِراً أي محيياً بها الأرض الميّتة، أي محيياً بآثارها وهي الأمطار. وقرأه عاصم بالباء الموحّدة في موضع النّون مضمومة وبسكون الشّين وبالتّنوين وهو تخفيف (بُشراً) بضمّهما على أنّه جمع بشير مثل نُذُر ونذير، أي مبشّرة للنّاس باقتراب الغيث. فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها، فيدخل عليهم بها سرور. وأصل معنى قولهم: بين يدي فلان، أنّه يكون أمامه بقرب منه (ولذلك قوبل بالخَلْف في قوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} [البقرة: 255] فقصد قائله الكناية عن الأمام، وليس صريحاً، حيث إنّ الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين، ثمّ لِشُهْرة هذه الكناية وأغلبيَّة موافقتها للمعنى الصريح جُعلت كالصّريح، وساغ أن تستعمل مجازاً في التّقدّم والسّبق القريب، كقوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبأ: 46]، وفي تقدّم شيء على شيء مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدّم عليه يَدَان. وهكذا استعماله في هذه الآية، أي يرسل الرّياح سابقة رحمته. والرّحمة هذه أريد بها المطر، فهو من إطلاق المصدر على المفعول، لأنّ الله يرحم به. والقرينة على المراد بقيّة الكلام، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر. والمقصد الأوّل من قوله: {وهو الذي يرسل الرياح} تقريع المشركين وتفنِيد إشراكهم، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مُصرّفاً وأنّ للمطر مُنْزلاً، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالباً، فيقولون: مُطرنا بنَوْء الثّريا ويقولون: غِثْنَا مَا شِئْنَا. مبنياً للمجهول أي أُغثنا، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله: {وهو الذي يرسل الرياح} أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء، هو اللَّهُ تعالى كقوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16]، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة. فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم: أرَاحل أنت أم ثاوٍ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيرَه، فروعي في هذا الإسناد حالُهم ابتداء، ويَحصل رعي حال المؤمنين تبعاً، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة. و {حتّى} ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله: {بشرا بين يدي رحمته}، الذي هو في معنى متقدّمة رحمتَه، أي تتقدّمها مدّة وتنشر أسحبتها حتّى إذا أقلَّت سحاباً أنزلنا به الماء، فإنزال الماء هو غاية تقدّم الرّياح وسبقها المطرَ، وكانت الغاية مجزأة أجزاء فأوّلها مضمون قوله: {أقلت} أي الرّياحُ السّحابَ، ثمّ مضمون قوله: {ثقالاً}، ثم مضمون {سقناه} أي إلى البلد الذي أراد الله غيثه، ثمّ أن يَنزل منه الماء. وكلّ ذلك غاية لتقدّم الرياح، لأنّ المفرّع عن الغاية هو غاية. الثّقال: البطيئة التّنقّل لما فيها من رطوبة الماء، وهو البخار، وهو السّحاب المرجوّ منه المطر، ومن أحسن معاني أبي الطّيب قوله في: «حسن الاعتذار»: ومِنَ الخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي *** أسْرَعُ السُّحْب في المَسير الجهَام وطُوي بعضُ المغيَّا: وذلك أنّ الرّياح تُحرّك الأبْخِرَة التي على سطح الأرض، وتُمِدّها برطوبات تسوقها إليها من الجهات الندِيَّة التي تمرّ عليها كالبحار والأنهار، والبُحيرات والأراضين الندِيَّة، ويجتمع بعض ذلك إلى بعض وهو المعبّر عنه بالإثارة في قوله تعالى: {فتثير سحاباً} [الروم: 48] فإذا بلغ حدّ البُخارِيَّة رفعته الرّياح من سطح الأرض إلى الجوّ. ومعنى {أقلت}، حملت مشتق من القلّة لأنّ الحامل يَعُد محموله قليلاً فالهمزة فيه للجعل. وإقلال الرّيح السّحاب هو أنّ الرّياح تمرّ على سطح الأرض فيتجمّع بها ما على السّطح من البخار، وترفعه الرّياح إلى العلوّ في الجوّ، حتّى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجوّ، فهنالك ينقبض البخار وتتجمّع أجزاؤه فيصير سحابات، وكلّما انضمّت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقلُ من إحداهما حينَ كانت منفصلة عن الأخرى، فيقلّ انتشارها إلى أن تصير سحاباً عظيماً فيثقل، فينماع، ثمّ ينزل مطراً. وقد تبيّن أنّ المراد من قوله: {أقلت} غير المراد من قوله في الآية الأخرى {فتثير سحاباً} [الروم: 48]. والسّحاب اسم جمع لسحابة فلذلك جاز اجراؤه على اعتبار التّذكير نظراً لتجرّد لفظه عن علامة التّأنيث، وجاز اعتبار التّأنيث فيه نظراً لكونه في معنى الجمع ولهذه النّكتة وصف السّحاب في ابتداء إرساله بأنّها تثير، ووصف بعد الغاية بأنّها ثقال، وهذا من إعجاز القرآن العلمي، وقد ورد الاعتبارَاننِ في هذه الآية فوُصِفَ السّحاب بقوله: {ثقالاً} اعتباراً بالجمع كما قال صلى الله عليه وسلم و «رأيت بَقَراً تُذْبَح» وأعيد الضّمير إليه بالإفراد في قوله: {سقناه}. وحقيقة السَّوْق أنّه تسيير مَا يمشي ومُسَيِّرُه وراءه يُزجيه ويَحثُّه، وهو هنا مستعار لتسير السّحاب بأسبابه التي جعلها الله، وقد يجعل تمثيلاً إذا رُوعي قوله: {أقلت سحاباً} أي: سقناه بتلك الرّيح إلى بلد، فيكون تمثيلاً لحالة دفع الرّيح السّحاب بحالة سوق السّائق الدّابة. واللاّم في قوله: {لبلد} لام العلّة، أي لأجل بلد ميّت، وفي هذه اللاّم دلالة على العناية الرّبانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية (سقناه) بحرف (إلى). والبلد: السّاحة الواسعة من الأرض. والميّت: مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النّبات، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضاً مجاز عقلي، لأنّ الميّت إنّما هو نباتُه وثَمره، كما دلّ عليه التّشبيه في قوله: {كذلك نخرج الموتى}. والضّمير المجرور بالباء في قوله: فأخرجنا به يجوز أن يعود إلى البلد، فيكون الباء بمعنى (في) ويجوز أن يعود إلى المَاء فيكون الباء للآلة. والاستغراق في {كل الثمرات} استغراق حقيقي، لأنّ البلد الميّت ليس معيّناً بل يشمل كلّ بلد ميّت ينزل عليه المطر، فيحصل من جميع أفراد البلد الميّت جميع الثّمرات قد أخرجها الله بواسطة الماء، والبلدُ الواحد يُخرج ثمراته المعتادة فيه، فإذا نظرت إلى ذلك البلد خاصة فاجعل استغراق كلّ الثّمرات استغراقاً عرفياً، أي من كلّ الثّمرات المعروفة في ذلك البلد وحرف (من) للتبعيض. وجملة: {كذلك نخرج الموتى} معترضة استطراداً للموعظة والاستدلال على تقريب البعث الذي يستبعدونه، والإشارة ب (كذلك) إلى الإخراج المتضمّن له فعل {فأخرجنا} باعتبار ما قبله من كون البلد ميّتاً، ثمّ إحيائه أي إحياء ما فيه من أثر الزّرع والثّمر، فوجه الشّبه هو إحياء بعد موت، ولا شكّ أنّ لذلك الإحياء كيفيّة قدّرها الله وأجمل ذكرها لقصور الإفهام عن تصوّرها. وجملة: {لعلكم تذكرون} مستأنفة، والرّجاء ناشئ عن الجمل المتقدّمة من قوله: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} لأنّ المراد التذكّر الشّامل الذي يزيد المؤمن عبرة وإيماناً، والذي من شأنه أن يقلع من المشرك اعتقادَ الشّرك ومن مُنكِرِ البعث إنكارَه. وقرأ الجمهور {تذّكّرون} بتشديد الذال على إدغام التّاء الثّانية في الذّال بعد قلبها ذالاً، وقرأ عاصم في رواية حفص {تَذَكَّرون} بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين.
|